مذكرات مواطن (6): النفاق الاجتماعي.. بعباءة دينية!

النفاق الديني والاجتماعي.

النفاق الديني والاجتماعي.

في تاريخ كل أمة، هناك أوقات حرجة يجب أن نجتازها، لسنا أول من فعل ذلك ولن نكون آخر من يفعله. الدارس لتاريخ الحضارات والبلدان يدرك أن فترات التقهقر، فترات الانحدار، فترات الانحطاط الثقافي والفكري والسياسي واجبة للنهوض بالمجتمع، للنهوض بالبلد وللنهوض بقيمة وسمعة العلم. ليس عيبا أن نفشل في مرحلة معينة، ليس عيبا أن نسقط بل العيب أن نفتخر بسقوطنا وكأن وسام على صدورنا، العيب هو أن نصور الانحطاط على أنه مجد، ونصور العهر الفكري والنفاق الاجتماعي على أنهما دليل على الرقي الحضاري. عندما يعطيك المجتمع صورة مثالية عن نفسه رغم أنه منافق، يكذب على بعضه، يكذب على نفسه، يغطي ما يفعله برداء الدين والأخلاق والعادات والفضيلة، يجيز كل فرد فيه لنفسه ما يحرمه على غيره، يرتاد فيه الصغير والكبير حانات لا يباع الخمر فيها وإنما تباع الرداءة الفكرية، يفعل الجميع فيه ما يريدون سراً لكنهم ينكرون ذلك علناً.. عندما يفعل المجتمع هذا ويواصل إعطاءك تلك الصورة المثالية، فلا شك أن هذا المجتمع يعيش انفصاما في الشخصية، رفضا للذات ورفضا للواقع، رفضا لنفسه ولغيره وما أشد حزني اليوم وأنا أرى أن مجتمعي يعيش نفس الحالة، بنفس التفاصيل، وبنفس الآلام!

لا عجب أن يحاكم المناضل اليوم بتهمة الخيانة، ولا عجب كذلك أن يحكم على الحداثي والمفكر بتهمة الزندقة والردة في أحيان كثيرة.. لا داعي للدهشة عندما ترى نظاما يعمل على تكسير المجتمع بينما هذا المجتمع يصفق له، ولا داعي للتنهد حينما يخرج عليك مفتي من بلد بعيد ويكفر بحقيقة علمية بينما بعض المدعوشين داخل مجتمعك يحاول إيجاد المبررات له. نعم! كل هذا أمر طبيعي في فترات الانحطاط، كل هذا أمر طبيعي مادمنا نعيش حالة من الرفض المستمر للحداثة باسم الدين والدين براء من رفضنا، مادمنا نعيش ما أحب أن أسميه دائما “النفاق الديني والاجتماعي”.

إن النفاق يا أعزائي لا يقتصر على فرد في حالتنا بل هو صفة لمجتمع لا يزال يرفض أفعال يقوم بها يوميا، إن رفضها ومر ولم يعد لها سأتقبل الأمر لكن أن يرفضها ثم يمارسها في السر فهذه هي الكارثة. اليوم، بعضنا يدافع عن حقوق الأقليات فتخرج الأغلبية وترفض ذلك، الأغلبية المتدينة (ولا أملك شيئا ضد الدين بل أتحدث عن أفعال المتدينين) أو “المدعوشة” في بلدي تهلل فرحاً عندما يبنى مركز إسلامي في بلد أوربي بينما هي بالمقابل ترفض لليوم الاعتراف بأن هناك مسيحيين ويهود ولادينيين شاركوا في الثورة التحريرية، ترفض الاعتراف ليس فقط بدورهم بل بحق الكثيرين من غير المسلمين في الجنسية الجزائرية وكأن الجزائر أصبحت حكراً على ديانة معينة (أكرر ليس هدفي التجريح في الدين). اليوم، يأتي الكثير من “فقهاء آخر زمان” ويرسل التكفير إرسال المُسَلَّمَات دون حتى أن يدرك أنه يتعدى على صلاحيات الإله فهل يحسب نفسه إلها كاملا أخذ كرسي الإله الحقيقي؟ اليوم، يخرج عباقرة البرلمان ويتبعهم دواعش المواقع الاجتماعية وينددون بحماية حقوق المرأة بل ويأتي أئمة “آخر زمان كذلك” ويطالبون النساء بتقبل الضرب لأنهم سيكون بركة لهن وزيادة في حسناتهن.. بالله عليكم، بأي منطق يجدر بي أن أتحدث؟ وكيف يعقل أن أبقى متحفظا؟!!

لقد امتدت أصابع هذا النفاق الديني المقيت إلى كامل ربوع الوطن، وطن يقدس فيه الأئمة وينبذ المفكرون، يتحدث فيه رجل دين عن السياسة والاقتصاد والفكر والثقافة وهو خريج جامعة “كابول للقتل” التي كان يرتادها ولا يزال مجموعة من المتطرفين الإرهابيين. في الجزائر، في هذا الوقت، الأخ يضرب أخته إن تأخرت عند صديقتها بينما لو نظرنا إلى هاتفه لوجدنا رسائل “دون خوان“، كل شخص يتحدث باسم الدين والأخلاق بينما هو قد يفعل أمور يستحي اللسان من ذكرها، كل فرد يتباهى بإيمانه وكأنه يمن هذا الإيمان على عباد الله، وكأنه إلههم ويا ويلك إن حاججته فستصبح زنديقا أمام فكر “أخينا”. في بلدي وللأسف لا يزال ذلك الثالوث المحرم بقواعده الثلاث (الدين، الجنس والسياسة) يسيطر على الناس وكأنه كتب علينا أن نعيش في مجتمع يتباهى بنفاقه ويزداد تعجرفاً ولامبالاة وحتى كفراً بالإنسانية والحضارة والقوانين يوما بعد يوماً.

في مقال صدر مؤخراً من طرف جريدة فرنسية تم الحديث فيه عن الجنس والشباب وعلاقة الأول بالسياسة في الجزائر، المقال بنظري تطرق لأمور تعتبر طابوهات في مجتمع لا يزال يؤمن بالمحظورات الثقافية، محظورات ستبقيه دائما غارقا في وحل السكوت أمام نظام متجبر. اتضح أن الشباب الجزائري يخضع لضوابط لا تبنى في غالب الأحيان على أساس ديني وإنما على أساس عرفي واجتماعي. أي أننا نخاف من الناس أكثر من خوفنا من إلههم ونخاف من نظرة الناس أكثر من خوفنا من نظرة الإله، ونخاف من حساب الناس أكثر من خوفنا من حساب الإله.. نحن نقيم وزناً للمحظورات الثقافية ونمنع بها ما حلله الدين وهو النقاش والحوار والانفتاح على كافة الآراء. لم يسبق أن كان الدين يمنع الآراء ولا الحياة، إنما هو ينظم شؤون العباد بنظرة كونية وفلسفية تعطيك حريتك قبل أن تكلفك فأنت حر قبل أن تكون مسؤولا بينما في مجتمعنا أنت مسؤول ولن تكون يوما حراً!

اليوم، ولنكن واضحين، يمكنك أن تفعل أي شيء لكن حذار أن يراك الناس.. يمكنك أن تسرق، أن تشرب الخمر في أفخم الحانات، أن تمارس علاقة عاطفية أو جنسية مع من شئت، أن تقيم حفلات صاخبة في أفخم الفنادق، أن تأكل ما لذ وطاب لكن إياك أن يراك المجتمع فأنت بريء ولو كنت مذنبا مادام لم يرك أحد.. هذا هو النفاق الاجتماعي، هذا هو النفاق الديني.. أن نفعل ما نشاء لكن لا داعي للتكلم عنه في العلن، كلنا فاضلون وكلنا ننكر ما نفعل ومن يتعد الحدود المسموحة له في الفكر والسياسة والثقافة والأدب نتهمه بأبشع الأوصاف وكأننا أفضل منه.

إن كل هذا مظاهر ليست معدودة مادام الكل يمارسها والكل يفعله وأحيانا باسم الدين والأخلاق.. وإن لم نصارح أنفسنا كما يجب وبالشكل المطلوب سنبقى ندور في حلقة مفرغة لأنه لا فائدة من محاولة الإصلاح مادام المجتمع يمارس الغباء والاستحمار جهاراً نهاراً! يجب أن نخرج من قوقعة الخوف التي نقبع فيها ونعبر عن ما نراه صحيحاً ولتذهب هذه المحظورات الثقافية والأخلاقية إلى الجحيم فالنقاش هو الحل الوحيد ومن قال غير ذلك فهو يضحك على نفسه ويكذب على الآخرين!

لهذا، كفرد من هذا الشعب الجزائري، لا أعترف بما يسميه البعض حدوداً للفكر حفاظا على الإيمان والذوق العام، فحماية إيمان الأمة اعتراف ضمني بضعف هذا الإيمان والحفاظ على الذوق العام هو حيلة اخترعها من يريدون استغفال الشعب لمنعه من إبداء رأيه مادام كل شيء اليوم يدخل في إطار الذوق العام حتى كرسي المرادية ومنبر الإمام.

نعم لعملية تنوير حقيقية تعيد المجد لهذا الأمة، لا للسكوت والانبطاح والخوف. الحرية تؤخذ ولا تعطى ولا بد للعهر الفكري والفساد الثقافي أن ينتهي.

2 thoughts on “مذكرات مواطن (6): النفاق الاجتماعي.. بعباءة دينية!

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

*