مذكرات مواطن (14): محمد بوضياف.. الشمعة التي لن تنطفئ!

بوضياف.. الشمعة التي لن تنطفئ!

بوضياف.. الشمعة التي لن تنطفئ!

بعد أيام من ذكرى وفاة الفنان معطوب الوناس الذي دفع ثمن معارضته لسياسات النظام ولتطرف من نصبوا أنفسهم أولياء على حياة الناس؛ نحيي اليوم ذكرى وفاة رجل آخر في تاريخ هذه الجزائر، رجل دفع ثمن نزاهته وحبه للبلد، وسعيه لاخراجها من دوامة الحرب العقيمة التي انزلقت فيها.. نحيي ذكرى سي الطيب الوطني الذي قتلته نفس الأيدي التي جاءت به، الذي وما إن حاول فضح من تلاعبوا بالمواطنين منذ الاستقلال المزعوم حتى تلقى طلقات الغدر والخيانة من طرف من فرشوا له البساط الأحمر، في ذلك المطار. كل تلك الأرواح التي سقطت من أجل جزائر حرة وديمقراطية، كل تلك الدماء التي ارتوت بها هذه الأرض تدفعني مراراً وتكراراً إلى طرح السؤال: أ كتب على هذه البلاد، على هذه الأم أم تبكي أبناءها، إبنا وراء إبن، لأنهم أرادوا لها الخير في حين أراد بعض شخصيات ثلت الساعة الأخير، لها البقاء في دوامة الصراع؟

في ذكرى وفاة سي الطيب الوطني، أعتقد أن من حقي كمواطن يتألم لحال البلد أن يستفسر من يسمون أنفسهم بالمسؤولين عن الأمن والإستقرار: من أمر بقبض روح بوضياف؟ من يريد لليوم تغطية ذلك الاغتيال وربطه فقط ببومعرافي؟ إن الأحمق وحده (وعذرا على الوصف) هو من يؤمن بأن تصفية محمد بوضياف كانت قراراً اتخذه بومعرافي لوحده.. هذا إن سلمنا بأن بومعرافي هو من ضغط على الزناد! كشخص يهمه تاريخ بلده، لا أجد للآن أجوبة على ذلك السؤال، والمحير أن النظام أغلق ملف الاغتيال، كما أغلق قبله الكثير من الملفات التي تشبهه، ملفات يعرف القاصي والداني أن “حماة الوطن” كما يصفون أنفسهم لهم أيدي في تلك العمليات، فهم من أعطوا الأوامر، هم من أخذوا مكان عزرائيل، هم من يقررون، هم من يأتون بالرؤوساء، ويصنعونهم، ويقتلونهم إن حادوا عن المسار المخصص لهم.. في الحقيقة، “حماة الوطن” هم أول أعداء الوطن.

إن الأسئلة حول اغتيال محمد بوضياف تقودني إلى أسئلة أخرى حول الصراعات في تلك الفترة، ليست الأسئلة من قبيل نظرية “من يقتل من؟” فأنا لا أبرئ لا النظام ولا الإرهاب باسم الدين، ألوم الفيس كما ألوم النظام على المجازر التي حصلت، ولست من مؤيدي نظرية ايقاف المسار الانتخابي أيضا، فالفيس لم يكن ديمقراطيا، ولا النظام كان يريد إنقاذ البلاد إنما ضاع الوطن بين الفاشية الدينية والدكتاتورية العسكرية. الأسئلة التي تدور في ذهني هي أسئلة حول مصير المفقودين، فأين هم؟ ومن يريد لليوم طمس حقائق تلك الحقبة السوداء من تاريخ الجزائر؟ ما هي حقيقة كل الاغتيالات السياسية التي وقع الأبرياء والوطنيون ضحايا لها؟ أعتقد أننا قبل أن نطوي صفحة العشرية، كما يطالبنا أصدقاء النظام، لا بد من إيجاد أجوبة بعيدة عن الروايات الرسمية للأسئلة التي لا تزال نقطة سوداء في التاريخ الجزائري. قبل أن نحاول نسيان الماضي، يجب أن يدفع كل من أخطأ ثمن ذلك الخطأ، يجب أن يوضع من رفعوا السلاح خلف القضبان، ويجب أن يلحق بهم من كانوا سببا في الخراب الذي نعيشه اليوم من القيادات العسكرية الفاسدة والمافيا المالية التي نهبت، ولا تزال، أموال المواطنين. لا يمكن أن تقنعونا بالسير قدما ونحن للآن ضحايا لسياسة التجهيل التي تمارسونها كلما طالب الأحرار بمعرفة الحقيقة.

سي الطيب الوطني أراد إنقاذ البلاد من الوحل الذي كانت فيه، لم يكن ليساومها مع من غرروا بأبناء الوطن وشجعوهم على المعركة الصاحلة والجهاد في سبيل الدولة الإسلامية، ولا مع من نهبوا خيرات الجزائر منذ الاستقلال. الكثيرون سيتذكرون اليوم الإرادة السياسية التي كان يملكها محمد بوضياف والتي بفضلها بدأ بالتنقيب عن الثروات المسلوبة، وفتح تحقيقات مست من لا يجب المساس بهم. الرجل جاء من المنفى الذي قبع فيه بعد كان ضحية، كغيره، لتصفية الحسابات بعد الثورة، وربما كان يعرف أن من أبعدوه عن وطنه لن يترددوا لحظة في قتله، لكنه فضل البلاد ونظر إليها كأولوية عظمى رغم كل شيء. لعل خيوط وفاته ستبدأ في الظهور إن عرفنا من من اختاره لكي يكون دمية في مسرحية (وهو ما رفضه بوضياف وماكان سببا، من ضمن أسباب أخرى، في مقتله)، وربما سنكتشف الكثير إن نظرنا إلى قائمة من استقبلوه بالبساط الأحمر، فأنا على قناعة تامة بأن نفس من تظاهروا بالفرح يوما بمجيئه، هم نفسهم من قرروا الاستغناء عنه.

إن اغتيال محمد بوضياف، اغتيال يضاف إلى قائمة الاغتيالات السياسية التي لم تشأ بعض الأطراف مصارحة الشعب بحقيقتها؛ محمد بوضياف ليس إلا امتداداً لأولئك الذين ذنبهم الوحيد أنهم قرروا أن الوطن هو أعز ما يملكون، وأن تحمل المسؤولية في اللحظات الصعبة التي تعيشها الأمة هو واجب على فرد يحب هذا الوطن.. محمد بوضياف هو أفكار تجسدت في شخص، هو قطيعة مع من سمموا أرواح الجزائريين بخطاب العنف والكراهية والعنصرية والتدين الزائف ومع من لبسوا البدلات الرسمية وسرقوا الشعب باسم القانون، هو روح طاهرة أرادت البدء في إصلاح فعلي، هو مشروع مازال مستمراً، هو حقيقة لازالت غائبة، هو تضحيات لم تنتهي بعد.

من يظن بأن وفاة بوضياف، أو وفاة شخص آخر دفع ضريبة حب البلاد، هو توقف لمسيرة الإصلاح فهو مخطئ. مسيرة الإصلاح ليست مسيرة أشخاص، ليست مسيرة رجال ولا نساء بل مسيرة شعب ومسيرة أفكار. المسيرة لن تتوقف برصاصة غادرة أو بسيف متطرف، فالتضحية واجبة. المسيرة هي أحلام وأمنيات سنصل لها ولو بعد حين.

رحمك الله يا سي الطيب، رحم الله من لم يرض بالصمت والسكوت، رحم الله من ناضل، ولا يزال لأجل جزائر حرة وديمقراطية. الحقيقة ستظهر، ولو كره الكارهون!

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

*