مذكرات مواطن (15): تطرف.. ورجال دين بالمفهوم الكنسي.

تطرف ورجال دين بالمفهوم الكنسي

تطرف ورجال دين بالمفهوم الكنسي

“ليست الكارثة في مين يرفع السلاح ليقتل العباد، وإنما الكارثة كل الكارثة في من يأخذ كرسي الإله ويفتي في عباده”. هكذا قلت في قرارة نفسي يوم سمعت ذلك الكلام الصادر من القيادي في الحركة السلفية عبد الفتاح حمداش ضد كمال داوود. هكذا تأكدت مرة أخرى يوم صدر نفس الكلام تقريبا من طرف نفس الشخص ضد مناضلة أخرى. هكذا أشعر عندما أشاهد قنوات “اللحى” وهي تكرر نفس الكلام الذي سمعته الشعوب لفترة تتجاوز العقدين من الزمن، منذ بروز ما سمي آنذاك بالصحوة وما أسميه أنا بسبات الشتاء. عندما نطالب باصلاح الخطاب الديني، نحن لا نفعل هذا انطلاقا من فراغ بل من قناعة بأن خطابا مثل الذي يروجه دعاة “الفرقة الناجية” اليوم هو خطاب سيسقط البلدان في فخ الحرب الأهلية لمرة، ومرتين.. ومرات عديدة.

حرية التعبير لا يتحكم فيها أشخاص مستواهم لا يصل حتى ربما للثانوية أو للجامعة، حرية التعبير لا تعطى بل تؤخذ، حرية التعبير ليست امتيازا بل حقا انسانيا. المشكلة العظيمة في المجتمعات المتدينة هي النفاق الديني، هي تصور رجال الدين بأنهم آلهة بصلاحيات مطلقة، يحرمون عليك أنت التفكير، لماذا أصلا تفكر ونحن نفكر عنك؟ يحرمون عليك ابداء رأيك، يحرمون عليك أن تنور المجتمع وتكسر قيود الحماقة والغباء التي تتحكم فيه.. ويفعلون كل ذلك باسم الدين، والله والرسول، واللحية وفتاوى الفقهاء. نحن في عصر لا يجدر بك فيه أن تدرس وتتخرج بشهادة عليا لتتحدث في مجال معين، يمكنك فقط أن تطلق العنان لشعيرات ذقنك، أن تلبس عمامة وأن تلازم أمثال حمداش وبلحمر فهذا سيعطيك جوازا أحمراً لتبدي رأيك “الشرعي” في كل شيء، تحت أي ظرف، وبكل الألفاظ التي تروق لك ابتداء بالكفر وصولا للعلمانية مرورا ب”حملة ضد الفسق والفجور من أجل مجتمع وهابي يخاف من الحرية”.

عندما أرى القنوات تستضيف إرهابيين كمدني مزراق، وتبجل متطرفين فكريين كحمداش، وتجعل من شمس الدين مرجعا دينيا، وتبرئ علي بن حاج من كل التهم، وتفتخر بوجود “علاَّمة” كبلحمر.. ولا تزال القائمة طويلة فإنني أبكي، أبكي على الجزائر التي تحاول أيدي التطرف اغتيالها لأجل الوصول للسلطة، أبكي على هذا البلد الذي لم يشء له القدر أن يستريح من تفاهات هؤلاء، أبكي على التسامح، على الإنسانية، على الحب، على المنطق والعقل، بل حتى على الدين والإله الذي أؤمن به والذي جعله هؤلاء قنطرة ليحكموا، قنطرة ليسرقوا من عمرنا خمسين سنة أخرى (مثلما فعل النظام) ليس باسم الشرعية الثورية هذه المرة بل باسم الشرعية الدينية. إنهم رجال دين وليسوا علماء فاحترامي لكلمة العلم يمنعني من أن ألوثها وأدنسها بمجموعة من “الملتاثين” والمحبين للدماء، المحبين للنموذج الأفغاني والمحبين لدولة دينية تبني مواطنتها (هذا إن اعترفت بمفهوم المواطنة) على أساس ديني. إنهم ليسوا فقهاء يا جماعة الخير، إنهم متطرفون ورجال دين بالمفهوم الكنسي يوم كانوا يبيعون صكوك الغفران للناس، إنهم جماعة من محبي الكتب الخضراء والصفراء والحمراء التي يريدون أن يقيموا دولة بها، إنهم أحبار ورهبان، لديهم دموع التماسيح، ويفرحون لتأجج الفتنة، ويعملون من أجل تزييف وعي الإنسان، ويحاولون دائما جعلك كافرا زنديقا إن أردت دولة تحترم وتصون حقوق الجميع، لا يستريحون إلا إن حُكِمَ عليك بالإعدام ولا تطمئن قلوبهم إلا إن أصبحت منبوذا من أرضك، مطرودا من وطنك، مرفوضا من شعبك، مُقَاتلاً ومُحَارباً من طرف البلد الذي أحببته، والذي ذنبك أنك أردت رؤيته يسير وفق قوانين لا تفرق الأمة، ولا تقسم أبناءها، ولا تشتت شملها.

لعل ما يحزن أكثر هو صورة الجزائر اليوم التي أصبحت بسبب هؤلاء “الدعاة” صورة نمطية عن انغلاق فكري ورفض للآخر باسم الحقيقة المطلقة. اليوم، نحن نخرج لأجل كرة أو لأجل دعاوى لبعض الملتحين لكننا لا نهتم بما يفعله النظام، نحن نحتقر المرأة ويطالب البعض بضربها لأن في ذلك “حسنة جارية” وعندما تقف أنت أو أنا ونندد بهذا الغباء، بهذا الاحتقان الذي يصدر نتيجة اضطراب فكري فإننا نصبح أعداء الأمة والدين والوطن. لا بأس بالنسبة لهم حين يفتي أحدهم بجواز نكاح القاصرات بعد موافقة الولي، ولا يجدون حرجا في الدعوة للجهاد في سوريا ولمبايعة البغدادي؛ لا بأس أيضا بمن يصعد على منابر المساجد ويصرح بأن وجه المرأة عورة، لكن أن نطالب باعطاء المرأة حقوقها وبأن نرفض الظلم الممارس ضدها من طرف بعض الجهلة، أن نقف وقفة حق وأن نشير بإصبع الاتهام لكل من يريد تصوير المرأة على أنها غير قادرة على النجاح، أن نزيل القناع الذي يرتديه هؤلاء الذين يقولون بأنهم يريدون شرف وكرامة المرأة.. هنا، نصبح نحن الخطر ويصبحون هم “كل البركة ونعم بالله!”.

إنهم يحرمون الفكر والثقافة، لا بد أن يمر كل شيء عبر مراقبتهم وإلا فإنهم سيكفرون كل المجتمع، يقسمون العلوم لشرعية ولا شرعية، يحاربون الحرية لأنها ستقضي على وصايتهم التافهة، لا يريدون إلا السيطرة على الناس، ومشاعرهم، وحياتهم، وعقولهم بل وحتى انسانيتهم إن لزم الأمر. هم لا يمثلونني، بل لا يمثلون الدين حتى فالدين ليس كهنوتا، والله لا يحتاج لأحد ليحميه، هم لا يحمون إلا مصالحهم تحت غطاء الدين، يحمون نفاقهم وتأسلمهم، يحمون الصورة النمطية التي كونتها الشعوب عنهم ولهذا يقصونك، لهذا يحاربونك وفكرك لأنك خطر على تلك المصالح، وذلك النفوذ. إنك خطر لأنك تقول ما لا يجب أن يقال، أنت خطر لأنك تحترم عقلك وتنتمي للإنسانية قبل أي شيء آخر، أنت خطر لأنك تريد دولة الموطنين، لا دولة الدواعش ومن والاهم. نحن خطر إذا، لا بأس! المهم أن الجزائر لن تصبح أفغانستان، ولن نسمح بتحولها لدولة ثيوقراطية، كلنا جزائريون رغم الاختلاف.

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

*