صرخة في وجه المتشددين

إن تنوع الحضارات نعمة على هذه البشرية، فالاختلاف ينتج الآراء و اختلاف الآراء في مصلحة الأمة والمجتمع ولا ينكر هذا إلا جاهل وحقود على حضارات غير حضارته. أتذكر إحدى المقولات التي سمعتها: كل حضارة ناجحة تقوم على مخلفات الحضارات الفاشلة. رغم أنني أختلف مبدئيا مع وجهة النظر هذه فلا وجود لحضارة فاشلة وإنما هناك حضارة أثرت في غيرها ولم تتأثر ولم تسمح للمفكرين أن ينشطوا كما يريدون وكما أُرِيدَ لهم.

الحضارات كلها تختلف وتتنوع سواء للدين الذي تنبع منه أو للثقافة والمبادئ التي ترتكز عليها أو للإيديولوجية التي تسير وفق نهجها، لكن في الأخير من الأكيد أنها تصب كلها في فائدة العالم ولم لا فائدة بعضها البعض رغم المصطلح الذي يطلق على الصدام الذي قد يحصل ” صراع الحضارات “. إن الكارثة العظمى تقع حين يرفض أشخاص معينون الحضارات الأخرى بحجج دينية أو سياسية أو اجتماعية أو تاريخية، والطامة حين يتبع بعض من الشعب هؤلاء الأشخاص فيعيش الكل تحت وطأة غربة ثقافية تتميز بالتحريم والتكفير وقتل أصحاب الرأي المخالف وتسمية هذا القتل ب ” الحكم الشرعي “.

لطالما أحببت أن أقول لمن يرفض التعامل مع الحضارات الأخرى بحجج دينية: أنت حر أن تنتحر عقليا وفكريا… أنت حر أن تتعصب لرأيك في كتبك و مقالاتك و أطروحاتك، لكن ممنوع عليك أن تنحر الآخرين وتقتل فكرهم وممنوع عليك أن تحمل سيفك أو سلاحك لتكره الناس على تعصبك! برأيي، أعظم المشاكل التي تعيشها الامة العربية اليوم هو الانتحار الفكري والعقلي والغربة الثقافية التي تتلخص حول مبدأ ” احنا و بس! ” ولنكون صريحين، هي غربة ثقافية تشبه الغربة التي يدعو إليها الدواعش ويسمونها خلافة!

لا مشكلة لنا مع الدين وكيف تكون لنا مشكلة مع الدين ونحن متدينون؟

لا مشكلة لنا مع الإله وكيف تكون لنا مشكلة ونحن نؤمن به؟

مشكلتنا الكبرى والوحيدة هي مع أولئك الذين يتحدثون باسم السماء وينصبون أنفسهم كمسؤولين عن الدين والله ويجعلون أنفسهم منزهين وملائكة ويحكمون على الآخرين بالكفر والزندقة. يرفضون التعاطي مع كتب الفلسفة قائلين بأن الدين حرم الفلسفة وكما أرد دائما: طيب، وين هالتحريم يا شيخنا الفاضل؟!

يرفضون التعاطي مع العلوم الدنيوية لأنها في رأيهم طبعا علمانية تدعو إلى الخروج عن الدين ولو سألتهم عن مستواهم الدراسي لأجابك أفضلهم بأنه لا يتعدى الإبتدائي و بأن العلم الحقيقي موجود في كتب السلف الصالح. مشكلتهم هي الخلط بين الأمور الدينية والدنيوية، بين الرحلة الروحية والمادية، بين الدنيا والآخرة، بين الحاضر والماضي، بين مشاكلنا ومشاكل أناس كانوا يسكنون الخيم، بين أفكارنا وأفكار قوم اعتقدوا أن الجنين يلبث في بطن أمه أربعة أعوام، بين حلول نفعت الأمس ولن تنفع اليوم وأخرى ستنفع اليوم لكن لم يكن من الممكن أن تنفع بالأمس، بين تحديات شعوب عرفت الطائرة ومشت على سطح القمر وأخرى كانت متقوقعة في جزرها إن لم أقل في البادية، بين إيديولوجيات عصر سادت فيه الهمجية والقتل وإيديولوجيات عصر آخر تحكمه القوانين الدولية، بين دولة الأمس ودويلات اليوم، بين الحمام الزاجل والانترنت، بين الإبل والسيارات، بين الخيم والفيلات.

بأي حق يتحدث هؤلاء المتشددون؟

ماذا يمكن لهم أن يقدموا أكثر مما قدموا ؟

لا يمكن لدولة تبدأ مسيرتها الحضارية بختان البنات وقتل المرتدين أن تصل إلى مراتب رفيعة في البحث العلمي، من المستحيل أن تحاول فرض فكرك وأنت تستورد كل شيء من بلدان تسميها الكافرة والملحدة، من غير المعقول أن تتجرأ وترفع سلاحك ضد من تسميه أنت  بالعدو وأسميه انا بالحليف والعالم كله يعرف أن سلاحك مصنوع في بلدان العدو.

لا تملكون لا نظاما اقتصاديا ولا نظام حكم سياسي و لا برنامجا يمكنك به حل مشاكل البطالة وتهميش الشباب، الدين عندكم لحية تصل إلى السرة و لباس شرعي وحجب للمرأة في البيوت ( طبعا لا أتحدث عن الدين وإنما عن من يحسبون أنهم يمثلون الدين والدين بريء منهم )، تقسمون الوطن وتفرقون أبناءه فهذا سني وذاك شيعي، هذا مسلم وذاك مسيحي، هذا مؤمن وذاك ملحد فتنسون أن الدين لإلهه والوطن لأبناءه، ولو أردتم خلافة تقصي أبناء الوطن الذين يختلفون معكم فتفضلوا رجاء أقيموا خلافة في الصحراء وكلوا الثعابين وتبركوا بالرمال وصلوا فوق كثبانها وتعبدوا في الواحات.

ولكن أتركونا نعيش حياتنا فنصلي في منازلنا وتكون علاقتنا الروحية خالصة لله ونعمل خارج منازلنا من اجل الارتقاء بهذا الوطن الحبيب، أتركونا رجاءً من فقه موالاة الكفار والولاء والبراء ودار الحرب ودار السلام ودار الإسلام ودار الكفر!

أتركونا رجاءً و لا تلوثوا وعينا بحكايات وقصص عن الزهد وأنتم تسكنون الفنادق !

اتركونا رجاءً ولا تلوثوا فكرنا بجهاد الكفار بناء على فتوى لإبن ربيع فالظروف مختلفة تماما !

أتركونا رجاءً نمرح و نعيش حياتنا بعيدا عن تشددكم وتطرفكم وأسلحتكم ولحيكم !

أتركونا رجاءً نكتشف العالم الذي يحيط بنا ونعاشر اِخواننا في الإنسانية ونتعرف على الديانات والثقافات ولا تلوثوا سعادتنا بفتواكم !

أتركونا رجاءً لنكتشف جمال الطبيعة ونتعبد الخالق كيفما نشاء دون أن تسيطروا علينا !

أتركونا رجاءً لنتحدث مع الأنثى و نحبها بصدق دون أن تصدعوا رؤوسنا بكلمات الفتنة المتكررة !

أتركونا رجاءً لنكون أحرارا في مواقفنا و آرائنا ولا تجعلوا أنفسكم ممثلين شخصيين لله هنا فالله لا يحتاجكم !

أتركونا رجاءً من كلمة الأصل والسلف فالله يعلم أنكم بعيدون كل البعد عن تفكير السلف الذين أجمعوا أن من حقنا أن نختلف ولم يكفروا من عارضهم !

أتركونا فقد تعبنا، أتركونا فقد أفسدتم معيشتنا وحرمتم متعتنا، أتركونا فقد كرهناكم وكرهنا ألاعيبكم !

من حقي أن أرى الحياة كما يحلو لي وأن أعيش كما أريد فلست أنت الإله الذي يحاسبني، من حقي أن أرى الواقع كيفما أشاء وأصفه حسبما أراه فلست أنت صاحب الحق هنا، من حقي أن أبدي رأيي وأعارض ما أراه خاطئا فأنا إنسان أخطئ وأصيب ولا أؤمن بتاتا بفكرة الحقيقة المطلقة.

التجرية الإنسانية جميلة ونحن هنا تلاميذ منذ صرخاتنا الأولى حينما نخرج من رحم أمهاتنا إلى لحظاتنا الأخيرة حينما نرتفع إلى جوار ربنا.. هي تجربة جميلة فلا تفسدوها على العالم لأنكم لم تعرفوا كيف تستفيدون منها، من حقكم أن تنتحروا فكريا كما قلت في البداية لكن اِبقوا بعيدا عن قتل العباد وتكفير الناس و تفجير البنايات.

9 thoughts on “صرخة في وجه المتشددين

  1. اننا يا صديقي نعيش عصر الجاهلية من جديد مع هذا الفكر المتحجر الذي لا يمتلك ادوات الحياة والفكر الناضج الذي يمكنهم من تقبل الاخر …فتعسا لهم ولفكرهم الاصم …..تحياتي لك ايها الغالي

    • بالفعل يا عزيزي، نحن نعاني مع هؤلاء، صدقني لا احاسبهم على فكرهم فمن أراد لعقله أن يتحجر فذلك شأنه لكنني أملك طلبا وحيدا: ليتركونا و شأننا، لا حاجة لنا بهم. إن تركونا فلينتحروا فكريا كما يريدون و ليسكنوا الصحراء و ليقيموا خلافتهم و ليقطعوا و ليجلدوا و ليفعلوا ما يشاؤون و أعاهدهم أنني لن أتدخل لكن أن يأتوا و يحاولوا فرض فكرهم علي فهذا لن أقبله أبداً. و كما قلتَ يا صديقي: تعسا لهم و لفكرهم الأصم أشكرك جزيل الشكر على هذه العبارة و على متابعتك و تعليقاتك.

  2. نعيش في زمان اصبح القوي يفرض نفسه بالقوة ، لكن يتغافل اننا نعيش كما يحلوا لنا رغم قوته وجبروته
    وسوف يأتي يوم وتغيير احول من حال الي حال اخر.

    • شكرا على التعليق. أملك حكايات و حكايات مع هؤلاء القوم و كثيرا ما قذفت بالزندقة أو البدعة ” هذا على أقل تقدير ” من طرفهم. لم يعودوا يتركوننا لنعيش كما يحلو لنا بل أصبحوا يدخلون حتى في الخصوصيات و ما أكثرها. أؤمن بأن يوم التغيير سيأتي و سوف ينقرض هؤلاء لكني أخاف أن يكون ثمن انقراضهم و انقراض فكرهم دماءا و ضحايا نضطر نحن لدفعها للتخلص منهم. شكرا مجددا.

  3. عندما قرات اول تدوينة لك اصابتني الخشية ان تكون احد اؤلائك المنومون بالفكر الدني المتعصب و لكن الحمد لله لست كذلك

    • أشكرك على ردك. بالفعل انا بعيد كل البعد عن الفكر الديني المتعصب و أفكر بعقلانية و إن لم أقتنع بالشيء فلا يمكن لأي داعية و لو كان من الحرم المكي أن يجبرني على الاقتناع.. الله أعطانا عقلا لنفكر به و يجب أن نستغل هذا العقل. أشكرك عزيزي على التعليق 🙂

  4. السلام عليكم
    الف تحية لك عزيزي …

    للاسف هم رجال النقص والكبث وليسوا رجال الدين … وعنوان المقال لوحده يتكلم !

    حرموا علينا الحياة كلها ،، لهذا تجد من ينفر منهم ومن يتعبد كلامهم ليلا ونهارا
    اين التنوير هنا بربكم؟

    لم تترك لي المجال للاضافة
    كتبت ووفيت

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

*